من هم أهل الذكر في الإسلام

من هم أهل الذكر

يُعد مصطلح “أهل الذكر” من المصطلحات البارزة في الخطاب القرآني والإسلامي، وهو يحمل دلالات علمية وفقهية عميقة ترتبط بمكانة العلم وأهله في الإسلام. ورد هذا المصطلح في مواضع عدة من القرآن الكريم، مشيراً إلى فئة مميزة من الناس الذين يمتلكون العلم والمعرفة التي تؤهلهم لتفسير أمور الدين وتبيين الأحكام الشرعية والرد على الأسئلة العقدية والفقهية. ومن خلال هذا المقال المفصل، سيتم تسليط الضوء على المعنى اللغوي والشرعي لأهل الذكر، ومكانتهم، وخصائصهم، ودورهم في المجتمع الإسلامي، وأهميتهم في الاجتهاد والإفتاء، كما سيتم بيان علاقتهم بالعلماء والرسل، وعرض بعض النماذج القرآنية والتاريخية التي تجسد هذه الفئة.

أولاً: المعنى اللغوي والشرعي لـ”أهل الذكر”

1. المعنى اللغوي:

في اللغة العربية، يُشتق لفظ “الذِّكر” من الفعل “ذَكَرَ”، والذي يدل على الحفظ، والاستحضار، والعلم. والذِّكر يعني أيضًا التنويه أو الإعلام، كما يشير إلى ما يُتَذكَّر به الشيء، أي تكراره على اللسان أو في القلب. ومنه سُمِّي القرآن الكريم “ذِكرًا” لأنه يُذكِّر الناس بالله وآياته.

2. المعنى الشرعي:

أما في الاصطلاح الشرعي، فإن “الذكر” يشير إلى معنيين:

• الذكر بمعنى القرآن والوحي: كما ورد في قوله تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” [الحجر: 9].

• الذكر بمعنى العلم والمعرفة بالدين: وهو السياق المقصود في الآية التي جاء فيها مصطلح “أهل الذكر”، أي أهل العلم بدين الله، وهم الذين يعلمون الشريعة، ويفهمون أحكامها، ويملكون القدرة على استنباط الأحكام من مصادرها الشرعية.

ثانياً: أهل الذكر في القرآن الكريم

ورد لفظ “أهل الذكر” في القرآن في موضعين رئيسيين، في سياق الدعوة إلى الرجوع لأهل العلم عند الجهل أو الالتباس، وهما:

قال تعالى: “وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” [النحل: 43، الأنبياء: 7].

في هاتين الآيتين يوجّه الله الناس إلى الرجوع إلى أهل الذكر في حال عدم العلم، أي أن من لا يعلم وجب عليه أن يسأل أهل العلم الموثوقين لمعرفة الحقيقة.

ثالثاً: من هم أهل الذكر تحديداً؟

أهل الذكر هم العلماء الراسخون في العلم، الذين يمتلكون المعرفة بالأحكام الشرعية والعقائد الإسلامية. يشمل هذا اللفظ فئات متعددة بحسب السياق، ويمكن تقسيمهم إلى:

1. علماء الشريعة والفقهاء: وهم الذين يدرسون القرآن، والحديث، وأصول الفقه، ويمارسون الاجتهاد في استخراج الأحكام الشرعية.

2. المفسرون والمحدثون: الذين يختصون بشرح معاني القرآن الكريم وتفسير السنة النبوية.

3. أهل العلم بالعقائد: ممن تخصصوا في علم التوحيد وأصول الإيمان، ودفع الشبهات العقدية.

4. علماء التاريخ والأنساب عند الحاجة: في سياقات معينة، حيث يُرجع إليهم في الأمور التي تتعلق بالسير والأحداث التاريخية، كما ورد عن بعض السلف.

رابعاً: شروط وصف الشخص بـ”أهل الذكر”

لا يَصح أن يُطلَق وصف “أهل الذكر” على أي شخص، بل توجد شروط دقيقة يجب أن تتوفر في الشخص الذي يُعد من أهل الذكر، ومن أهمها:

• العلم الراسخ بالشريعة الإسلامية.

• الدراية الكاملة بمصادر التشريع (القرآن والسنة والإجماع والقياس).

• العدالة والاستقامة في الدين.

• القدرة على استنباط الأحكام وبيان المسائل المعقدة.

• الاعتراف من قبل العلماء الثقات بعلمه واجتهاده.

خامساً: أهمية أهل الذكر في المجتمع الإسلامي

يلعب أهل الذكر دورًا حيويًا في استقرار المجتمعات الإسلامية من خلال الوظائف التالية:

• الإفتاء وبيان الأحكام الشرعية: فهم المرجع الأساسي في معرفة الحلال والحرام.

• التعليم والإرشاد: بنشر العلم الشرعي وتثقيف الناس في أمور دينهم.

• حماية العقيدة: من خلال تفنيد البدع والرد على الشبهات.

• المشاركة في صناعة الوعي العام: عبر التوجيه الديني والاجتماعي.

سادساً: الفرق بين أهل الذكر والعامة

العامة هم من لا يملكون أدوات العلم الشرعي ولا القدرة على استنباط الأحكام، ولذلك أوجب الله عليهم الرجوع إلى أهل الذكر. فالفرق بين الفريقين ليس فرق منزلة فحسب، بل فرق وظيفة وتكليف:

سابعاً: منزلة أهل الذكر في السنة النبوية

أثنت السنة النبوية على أهل العلم، ومنهم أهل الذكر، وأكدت على فضلهم ومنزلتهم الرفيعة، ومن ذلك:

• قول النبي ﷺ: “من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين” [رواه البخاري ومسلم].

• قوله ﷺ: “إن العلماء ورثة الأنبياء” [رواه الترمذي وأبو داود].

فالحديث يشير إلى أن أهل الذكر هم ورثة الأنبياء في العلم، لأنهم يحملون الرسالة من بعدهم ويبلغونها للناس.

ثامناً: علاقة أهل الذكر بالرسل

إن السياق الذي ورد فيه ذكر أهل الذكر في القرآن كان مرتبطًا بإثبات أن الله لم يرسل ملائكته رسلاً إلى الناس، بل أرسل رجالاً، وبالتالي فإن من ينكر رسالة بشرية الأنبياء عليه أن يسأل أهل الذكر الذين يعلمون سنن الله في خلقه. وهذا يدل على أن أهل الذكر يمتلكون علمًا شرعيًا وتاريخيًا يجعلهم قادرين على إقناع الناس بالحقائق العقدية والشرعية.

تاسعاً: مسؤولية الأمة تجاه أهل الذكر

فرض الإسلام على الأمة احترام أهل الذكر وتعظيم مكانتهم، والرجوع إليهم، والابتعاد عن التجرؤ على الفتوى دون علم، لأن في ذلك فسادًا للدين والمجتمع. وقد قال الإمام مالك بن أنس: “من أفتى بغير علم فهو آثم، ومن أفتاه فقد غره”.

وتتمثل مسؤولية الأمة تجاه أهل الذكر في:

• تقدير علمهم ومكانتهم.

• سؤالهم عند الحاجة لا مجادلتهم.

• نشر أقوالهم وآرائهم المعتبرة.

• الدفاع عنهم ضد الهجمات المغرضة.

عاشراً: انحرافات معاصرة تتعلق بمفهوم أهل الذكر

في عصرنا الحالي، ظهرت بعض الانحرافات المتعلقة بمفهوم أهل الذكر، من أبرزها:

1. الإفتاء بغير علم عبر وسائل التواصل.

2. تسفيه العلماء بحجة “كلنا نفهم الدين”.

3. اتباع غير المؤهلين بدلاً من أهل العلم الثقات.

وقد يؤدي هذا الانحراف إلى نتائج كارثية على مستوى العقيدة والسلوك الفردي والجماعي، وهو ما يستدعي إعادة الاعتبار لأهل الذكر من خلال التأصيل العلمي والتربوي.

حادي عشر: أمثلة من أهل الذكر عبر التاريخ

من أبرز الشخصيات التي عُرفت بأنها من أهل الذكر عبر تاريخ الإسلام:

• عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: حبر الأمة وترجمان القرآن.

• الإمام الشافعي: من أعظم فقهاء الإسلام وأحد الأئمة الأربعة.

• الإمام مالك بن أنس: صاحب الموطأ، وعالم المدينة.

• الإمام النووي: شارح صحيح مسلم ومؤلف رياض الصالحين.

• ابن تيمية وابن القيم: من أعلام الفقه والعقيدة في العصور المتأخرة.

ثاني عشر: الفرق بين أهل الذكر وأهل الدنيا

التمييز بين أهل الذكر وأهل الدنيا لا يعني التحقير من أحد، بل هو تصنيف وظيفي وعلمي. فكما أن للأطباء دورًا في صحة الأجساد، فإن لأهل الذكر دورًا في صحة القلوب والعقائد، وهو أشرف الدورين.

ثالث عشر: مكانة أهل الذكر في الحضارة الإسلامية

أسهم أهل الذكر عبر العصور في بناء حضارة إسلامية متكاملة تقوم على العلم والعدل والإيمان. فقد كانوا مرجعًا للخلفاء في اتخاذ القرارات، وكان لهم دور فاعل في القضاء، والإصلاح الاجتماعي، والتعليم، وبناء الوقف والمؤسسات العلمية.

المصادر والمراجع:

1. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة.

2. الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دار المعرفة.